بدأ العام الدراسي وبدأ طابور الصباح الذي أسمعه كل يوم من مدرسة قريبة، حتى الآن لم أجد من يشرح لي أنا العبد الفقير قليل الذكاء ما الحكمة من الطابور الصباحي، لكنه يبدو كالكثير من الأشياء في حياتنا، شيء اعتدنا عليه دون أن نسأل: لماذا؟
دعونا من هذا، أحاول اليوم أن أتذكر الأشياء الجميلة في المدارس، نعم أنا مؤمن بأن المدارس والنظام التعليمي لا زال كارثة وسيبقى كذلك إلى حين، ولا زلت أكره النظام التعليمي وسيبقى هذا الشعور إلى أن تنتهي أسبابه، مع ذلك هناك أمور جميلة في مدارسنا وهذه محاولة لتذكر بعض ما مررت به.
أول يوم في العام الدراسي كان هو أسوأ يوم بالنسبة لي، لم أكن أطيق الذهاب إلى المدرسة، لو أن المشاعر يمكن نقلها للآخرين من خلال جهاز عجيب لفعلت ذلك، تصور معي أنك تشعر بضيق شديد في صدرك، عقلك لا يفكر إلا في شيء واحد "لا أريد الذهاب إلى المدرسة" ويكرر هذه الفكرة مرة بعد مرة، أنت على حافة الانهيار لكنك تبدي تماسكاً عجيباً بالصمت ومراقبة الأشياء، هذا هو حالي في السنوات الأولى من المدرسة، لكن يبدو أنني اعتدت على هذا الشعور فأصبح اليوم الأول مجرد يوم أول لا يستحق كل هذا العناء، علي أن أتعامل مع ما أكره.
في السنوات التالية كنت أجد متعة في الكتب الجديدة، كانت المدارس توزع في بعض السنوات دفاتر مع الكتب ولا زلت أرى هذه الدفاتر بين حين وآخر، في المنزل كنا نقوم بتجليد الكتب ونقضي جزء من اليوم في شراء الدفاتر، بالطبع هذا الوقت من العام تكون فيه الأسواق مزدحمة بشدة، لذلك كنا في بعض الأحيان نشتري الدفاتر قبل العام الدراسي، المشكلة في هذا أن بعض المدرسين كانوا يشترطون شروطاً دقيقة لنوعية الدفاتر فلا يعجبهم شيء إلا أن نشتري من النوع الغالي ذو غلاف سميك، كنت أكره بعض المدرسين وأتخيلهم يموتون بأبشع الطرق وببطئ شديد لأنهم كانوا يستهزأون بي وبغيري ويعيروننا بقلة المال والفقر عندما يرون دفاتر مختلفة عن التي طلبوها.
هذا الاستهزاء بسيط في نظر المدرس لكنه يدمر الطالب ويجعله يكره المدرس والمادة التي يدرسها، وإن تكرر ذلك مع مدرسين آخرين سيكره المدرسة والتعليم والقراءة وكل شيء له علاقة بالعلم، ما الذي يجعل البعض يؤمن بأن الجلوس لمدة ست ساعات على كرسي واحد وفي فصل واحد أمام مدرس يستهزأ بالطلبة ويدمر رغبتهم في العلم هي وسيلة تعليمية فعالة؟ ما الذي يجعل البعض يؤمن بأن مدارسنا تعلم بالفعل وتربي الطلاب وتؤهلهم للعالم خارج المدرسة؟ حقيقة أجد صعوبة في تصديق أن البعض يؤمنون بأن نظامنا التعليمي رائع ولا مشاكل فيه.
على أي حال، أنا أحاول تذكر أشياء جميلة لكنني بالفعل لا أجد الكثير، أتذكر الفسحة بين الحصص، 10 دقائق أو 15 دقيقة من الحرية بعيداً عن الفصل وعن المدرسين وفي بعض الأحيان بعيداً عن الطلبة الآخرين.
أحياناً يغيب المدرس لأي سبب، وهذا يعني أن يأتي مدرس آخر مكانه، وغالباً يكون المدرس الآخر غير مستعد لتقديم درس فيحدثنا عن موضوع مختلف وفي الغالب تكون المواضيع مشوقة ونستمع لها بهدوء ونتفاعل معها، وفي بعض الأحيان نذهب إلى المكتبة لقراءة القصص أو المختبر لمشاهدة فيلم علمي.
في المرحلة الإعدادية تغير الوضع قليلاً مع رسوبي المتكرر، نعم لم أكن من المتفوقين ولم أحرص على هذا ولم أكن مهتماً بالنتائج، تأخرت عاماً ثم آخر وأصبحت بذلك أحد أكبر الطلاب في المدرسة، كنت أحترم المدرسين ولا زلت، حتى الذين لا أطيقهم، ولذلك كنت أجد من أكثرهم ثقة بي مقابل ذلك، وهذا ما أعطاني بعض الحرية في الخروج من الفصل والتجول في المدرسة، لا أدري لماذا لم يكن يسألني أحدهم: لماذا أنت خارج الفصل؟ بل كانوا يردون السلام علي ويسألون عن حالي وإلى أين أنا ذاهب فأخبرهم بأنني ذاهب إلى الملعب أو المكتبة أو فصل التربية الفنية.
في المكتبة لم يكن المدرس يسألني عن شيء، فأدخل وأقرأ ثم أخرج بدون أي كلمة ولأن المكتبة شبه فارغة أو في الغالب فارغة ولأنني لم أكن مزعجاً لم يجد المدرس أي سبب لإخراجي.
في الملعب كنت ألعب كرة السلة وحدي أو مع آخرين، الأستاذ حسن كما أتذكر اسمه لم يكن يهتم لخروجي من الفصل، فكان يسمح لي على الأقل بالجلوس لمشاهدة حصصه الرياضية.
أجمل ما في هذه المرحلة أنني كنت أستطيع الخروج من المدرسة بسهولة متى ما شئت ... تقريباً، ولا يحتاج ذلك أي تخطيط، فقد كان الطلبة يخططون لهروبهم من المدرسة، وقد كنت أسميه الذهاب إلى البيت بكل بساطة، هم يحاولون التسلق على الجدران الخلفية حيث يكثر المدرسون المراقبون، بينما أنا أحمل كتبي بهدوء وأخرج من الباب الأمامي بهدوء وألقي تحية سريعة على حارس المدرسة الذي يسأل عن حالي ولا يسأل عن سبب خروجي!
في هذه المرحلة أيضاً أتذكر بعض المدرسين الذين لهم أثر طيب، الأستاذ ممدوح مدرس التاريخ، لعل بعض من يقرأ هذه الكلمات يعرفه، هذا المدرس هو الذي جعلني أثق بأنني لست "صائعاً" لا فائدة مني وهو أول من أقنعني بأنني أستطيع أن أكون معلماً لو أردت، كذلك الأستاذ أيمن مدرس التاريخ أيضاً وكلاهما من مصر.
الأستاذ سعيد لطفي من سوريا مدرس اللغة الإنجليزية الذي درسني مرتين وكان تربوياً بمعنى الكلمة وقد جعلني أحب اللغة الإنجليزية بألعابه اللغوية، ولم يكن يدرس الإنجليزية فقط بل كان يقص علينا قصصاً ويحاورنا ويسألنا عن أنفسنا وحياتنا، في إحدى حصصه نزل المطر غزيراً فأوقف الدرس وطلب منا أن نفتح النوافذ وبقي صامتاً يشاهد المطر لفترة ثم حدثنا عن قصص لها علاقة بالمطر ... أستاذي الكريم، لا زلت أذكر ذلك جيداً، تمنيت وقتها لو أن كل المدرسين مثلك لما اضطررت اليوم لأن أقول بأنني أكره المدارس والنظام التعليمي.
هناك آخرون بالطبع لكنني للأسف لا أذكر أسمائهم.
هذه فقط الأشياء الجميلة التي أتذكرها من أيام الدراسة، كل ما سواها كان ولا زال يدفعني إلى كراهية المدارس والنظام التعليمي.