الثلاثاء، 28 نوفمبر 2006

قوارب مغبرة

عندما أذهب لمكان ما أحاول استرجاع العديد من الذكريات المرتبطة بهذا المكان، كم يحزنني عندما أذهب لمنطقة ما وأجد أن كل شيء تغير لأن هذا التغيير يمحو كل ارتباط لي بها، لم يعد شيء يدعوني إلى استرجاع الذكريات، وليس هناك من سبيل لتذكر شيء إلا أن أقرأ عنه أو أشاهد صوراً له.

اليوم وبعد صلاة الفجر ذهبت إلى بحر البطين، والبطين كما يعلم بعض زوار هذه المدونة هي المنطقة التي أسكن فيها في أبوظبي، لو جاء زائر من خارج المنطقة لما رأى شيئاً مميزاً، لكنها بالنسبة لأهلها تعتبر أفضل منطقة سكنية في العالم! هي كذلك بالنسبة لي، فلا تلوموني إن أكثرت الحديث عنها، فقد عشت طفولتي وحياتي كلها هنا.

البحر مكان يعج بالنشاط منذ ساعات الفجر الأولى، إذهب إلى أي مكان في العالم وزر مرافئ الصيد في الصباح الباكر وستجد الصيادين هناك قبلك، للأسف لم يكن الوضع هكذا اليوم في بحر البطين، نعم هناك أناس يمشون في مختلف الاتجاهات، لكن لم أرى أو أسمع أي قارب يأتي أو يذهب، هذا أمر طبيعي فقد اختصرت مساحة مرافئ الصيد المجانية وأصبحت ضيقة جداً، في الماضي كان معظم المكان مفتوحاً للجميع، إذا اشتريت قارباً يمكنك أن تضعه حيث تشاء، والناس في ما بينهم متفقون على أن هذا مكان فلان وذلك مكان فلان، ولا يعتدي منهم أحد على ممتلكات الآخر، في لهجتنا المحلية نسمي المكان الذي توضع فيه القوارب "مشرع" بتشديد الراء.

تغير الوضع هنا كثيراً، جاء أصحاب رؤوس الأموال واشتروا الأراضي وبنوا عليها، في منطقة ما هناك ستة بنايات سكنية وتجارية عالية احتلت مساحة واسعة كانت تستخدم في الماضي كمرافئ صيد، وفي منطقة أخرى وضع سور يحيط بمساحة كبيرة من الشاطئ وأصبح مكاناً خاصاً لشركة ما، إذا أردت أن تضع قاربك هناك فعليك أن تدفع إيجاراً شهرياً، مساحة ثالثة حجزت ليبنى فيها مركز بحري، لا أدري هل سيكون مركزاً تجارياً أم مكاناً لصف القوارب، وهناك مساحات أخرى محجوزة منذ وقت طويل لفلان وفلان.

حيثما ذهبت وجدت عبارة "ممنوع الدخول" أمامي، ذهبت إلى منطقة داخلية ورأيت من التلوث ما يكفي حتى أنني لا زلت أشعر بضيق في صدري من تلوث الهواء هناك، لم تكن هذه المنطقة بهذا السوء في الماضي، نعم كان التلوث موجوداً في الماضي لكن لا أتذكر أنه كان بهذا القدر، لا زالت هناك بيوت خشبية عشوائية وبينها حبال يعلق عليها الغسيل وأناس يمشون بالمئزر فقط وكل منهم يحمل سيجارة في يده.

لا أدري كيف كان علي أن أشعر، ساعة أحزن وساعة أغضب، لماذا يتغير وجه المنطقة بأكمله لتلبية رغبات أصحاب رؤوس الأموال؟ أليس من المفترض أن تدرس المشاريع ونعرف ما هو تأثيرها على المنطقة اجتماعياً واقتصادياً؟ هناك أمور أهم بكثير من المشاريع العقارية لكن يبدو أن البعض لديه معتقد أن العقارات أهم من الإنسان، وأنه هو وحده أهم من الآخرين، فما قيمة عمل هؤلاء البحارة مقارنة مع قيمة العقار وتحديث المنطقة؟

في طريق عودتي رأيت شخصاً له فضل كبير علي وعلى الكثير من أبناء منطقة البطين، أعني سعيد عبدالله المهيري أو كما يعرف لدينا "سعيد المطوع"، وكعادته دائماً رحب بي مبتسماً ودعاني لمجلس صغير على شاطئ البحر، هذا المجلس يذكرني بمجالس أخرى قد أتحدث عنها في موضوع لاحق، تحدثنا قليلاً عن أمور مختلفة ثم عن البحر، أخبرني بأن هناك نية لأخذ ما تبقى من المنطقة ومنع أصحاب القوارب من وضع قواربهم على هذه الشواطئ، إن حدث هذا فلن يعود لدنيا شيء يسمى "بحر البطين" لأنه سيصبح مكاناً للمترفين فقط، لم أجلس كثيراً هناك، لكن ذهبت وأنا أحمل كيساً من السمك، رزق أتاني ولم أتعب في طلبه، فجزى الله خيراً من أهدانيه.

لم يعد شيء يثير الذكريات هنا، أين الرمال البيضاء؟ أين الناس الذين نعرفهم ونتبادل التحية معهم كل صباح؟ أين القوارب التي كانت تذهب وتأتي؟ لم أعد أرى أحد يبيع ويشتري، لم أعد أسمع أصوات الناس وهم يزايدون في أسعار السمك ويتنافسون في ما بينهم لشراءه، كل ما أراه قوارب يعلوه الغبار، قوارب كثيرة، وأناس يمشون.