قبل أن تحلق الطائرة كان علي أن أربط الحزام لكنني واجهت صعوبة في فعل ذلك، الكرش أصبح مستديراً واضحاً لكل عين، سنوات الإهمال بدأت تظهر نتائجها في وزن زائد وكرش ممتد وآلام في الظهر، قبل أن نحلق قامت المضيفة بالمرور على جميع الركاب لكي تتأكد من أنهم ربطوا الأحزمة، عندما وصلت إلى كرسيي قلت لها: لا أستطيع! فذهبت مسرعة وعادة بحزام إضافي، أما الأستاذ أبو عمر فقد كان يبحث لي عن عذر لعدم قدرتي على ربط الحزام.
حلقت بنا الطائرة مسرعة وبدأت رحلتنا، على الشاشات أمامنا تظهر خارطة تبين المسافة التي قطعتها الطائرة وارتفاعها وسرعتها، مررنا على عمان والهند وبعض الجزر المتناثرة في المحيط الهندي، هذه المسافة كان التجار يقطعونها في شهرين أو أكثر نقطعها اليوم في ثمانية ساعات.
كتابي الذي بدأت قرأته في الطائرة هو صور من الشرق في أندونيسيا من تأليف الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله، وكنت قد قرأت هذا الكتاب قبل سنوات لكنني أردت قرائته مرة أخرى لأنه يتحدث عن البلد الذي سأذهب له.
أتذكر نصيحة قرأتها في مكان ما تقول: إذا كان الكتاب يتحدث عن مكان ما فحاول أن تقرأه في هذا المكان، بمعنى لو أن لديك كتاب يتحدث عن تاريخ الأندلس فحاول أن تقرأه في إسبانيا وأنت تزور آثار المسلمين هناك، هذا يضيف قيمة للكتاب فما تقرأه تراه على أرض الواقع مباشرة فيكون للكتاب أثر أكبر.
الكتاب نشر في عام 1960م وتحدث فيه الشيخ عن رحلته إلى باكستان والهند وسنغافورا وماليزيا وأندونيسيا، رافقه في الرحلة الشيخ أمجد الزهاوي وقد كان هدف الرحلة هو دعم القضية الفلسطينية وتوعية المسلمين في تلك البلاد بما يحدث على أرض الإسراء.
تحدث الشيخ عن عادات سكان هذه المناطق وعن تاريخهم وثقافتهم، تاريخ لا يعرفه الكثير من المسلمين، تاريخ الشرق الإسلامي لا يقل قدراً عن تاريخ الأندلس، لكننا أهملناه وأهملنا أهل هذه الديار والنتيجة ترونها اليوم ابتعاد عن الدين وجهل به وانتشار الفقر والجهل، بعضهم لا يعرف من الدين سوى اسمه، لكن هناك أمل دائماً، فهؤلاء القوم يحبون الدين وأهله ويحبون الرسول عليه الصلاة والسلام، فهل من دعاة يذهبون لهم يفقهونهم في أمور دينهم ودنياهم؟
أستطعت قراءة الكتاب كله في الرحلة وقد كان كتاباً ممتعاً مفيداً، ومن يعرف أسلوب الشيخ علي الطنطاوي في الكتابة يعلم تماماً ماذا أعني بقولي "ممتعاً ومفيداً" لأن الشيخ رحمه الله يمزج بين التاريخ والأدب والسياسة وأمور أخرى ويضيف شيئاً من روح الدعابة اللطيفة فلا تشعر بأنك تقرأ كتاباً جامداً بل كتاب تتمنى ألا ينتهي أبداً.
كنا نسافر في الليل وكان علي أن أنام قليلاً، لكن النوم بالنسبة لي صعب في هذه الظروف، فأنا أريد الهدوء التام وهذا مستحيل في الطائرة، صوت المحركات والناس والمضيفات والحركة الدائمة في الطيارة كلها أمور تمنعني من النوم، مع ذلك غلبني النعاس آخر الرحلة لكنني كنت أغفو قليلاً فأشعر بأن الأصوات كلها تلاشت ولم أعد أشعر بشيء وفجأة أعود لأسمع صوت المحركات عالياً قوياً فأستيقظ ويطير النوم من عيني.
هبطنا في مطار جاكرتا في ظهيرة يوم الخميس الخامس عشر من مارس، أول ما لاحظته في المطار هو الجو، فقد كان رطباً وحاراً، البلاد من حولنا خضراء والركاب يتسابقون لإنهاء إجراءات السفر، كان علينا أن نقوم بعمل تأشيرات دخول لأندونيسيا ودفع تكاليفها، فعلنا ذلك وانتهينا من إجراءات الدخول، بعد ذلك التقينا بعتبة، شاب أندونيسي يعمل في مكتب الهلال الأحمر التابع للإمارات في أندونيسيا، قصير القامة وحليق الرأس وابتسامته لا تفارق وجهه، ثم التقينا بتوفيق الذي يعمل أيضاً في مكتب الهلال الأحمر، أسمر ومتوسط القامة.
الأستاذ أبو عمر جاء إلى هذا البلد من أجل عمل خيري يتمثل في صيانة مسجد تكفل ببناءه محسن من الإمارات قبل عشر سنوات تقريباً، لذلك قررنا أولاً أن نذهب إلى الفندق لكي نضع أمتعتنا هناك ونصلي الظهر والعصر وأبدل أنا ثوبي الذي اتسخ.
عندما خرجنا من المطار جاء رجل إلى أبو عمر وأعطاه بطاقة، أخذها أبو عمر ومشى قليلاً وهو يقرأها ثم عاد وأعطاها للرجل وذهب، الرجل كان يعرض عليه خدمة ما يسمى بالزواج المؤقت! وهو في الحقيقة غطاء شرعي للفاحشة وللأسف أخبرنا مرافقونا أن من يلجأ لهذه الخدمة أغلبهم من الجزيرة العربية.
في الطريق إلى الفندق كان أبو عمر يتحدث مع الأخوين عتبة وتوفيق وانشغلت أنا بالنظر إلى خارج السيارة لكي أتمتع بالنظر إلى ما لم أره من قبل، بلاد خضراء لا تعرف أين تنتهي قراها وتبدأ مدنها فكل شيء متصل لا ينقطع، القرى والمزارع والمدن كلها متتابعة، بعضها يختفي خلف ستار من أشجار الغابات وبعضها مكشوف يمكن للجميع أن يراه.
الشوارع مزدحمة والناس هنا يقودون سياراتهم بأسلوب لم نعتد عليه في دول الخليج، فالسيارات والدراجات متقاربة بشكل كبير مع ذلك لم أرى أي حادث يقع حتى لو كان حادثاً بسيطاً.
مررنا على مركز للتسوق ويحمل لافتة تقول "كارفور"، العولمة تأتي بالشركات الكبرى من أنحاء العالم لتغزو الأسواق المحلية حيث لا يمكن للتجار المحليين أن ينافسوا الشركات الكبرى وآلتها التسويقية.
وصلنا إلى الفندق وصلينا وبدلت ثيابي ثم انطلقنا إلى بوغور، هذه المدينة تحوي قصراً رئاسياً ويحوي القصر متحف نباتي أو حديقة تضم أنواعاً مختلفة من الأشجار والنباتات، مررنا عليها سريعاً ورأينا أشجاراً كبيرة معمرة والكثير من الغزلان أيضاً، إن وجدت فرصة ثانية لزيارة أندونيسيا فلا بد من زيارة هذه الحديقة والتجول فيها.
بعد أن تجاوزنا الحديقة وصلنا إلى منطقة سكنية مزدحمة ومن هناك سرنا خلف دراجة يقودها شخص يعرف الطريق إلى المسجد، الممرات ضيقة وبالكاد تتسع لسيارتنا، مع ذلك كان الناس يمشون وبعض الدراجات تسير بجانبنا، المنطقة فقيرة شأنها شأن الكثير من المدن والقرى، هناك مساحات ترمى فيها القاذورات.
لكن الصورة عند المسجد كانت أفضل حالاً، فقد كان المسجد نظيفاً، دخلنا لنصلي ركعتي تحية المسجد ثم جلسنا لنشرب الشاي ونأكل من وجبة محلية وهي موز مقلي! وأظن أنه يقلى مع البيض، أكلنا شيئاً من هذا الموز لكي نطيب خاطرهم أما الشاي فقد كان رائعاً، هؤلاء القوم أكرمونا بالرغم من صعوبة ظروفهم، مثل هذا الكرم يحرك القلب ويسعده.
قمنا بمعاينة المسجد، السقف يحتاج إلى صيانة تامة، هناك منارة قصيرة تحوي ثلاث سماعات وواحدة فقط التي تعمل، وقد رأيت شيئاً في المسجد وقرأت عنه في كتاب الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله، هناك طبلان أحدهما معلق ويبدو شكله مثل الكرة المستطيلة ويحوي شقوقاً طولية وله مضرب خاص به، والطبل الثاني هو طبل عادي لكنه ضخم، هذه الطبول تستخدم قبل الأذان لتذكير الناس بموعد الصلاة.
تحدثنا عن تكاليف الصيانة وكيفية إرسالها وعن محاولة استغلال أرض بجانب المسجد لإنشاء وقف للمسجد، وبعد أن انتهينا قمنا بالسلام على بعض رجال المنطقة وركبنا السيارة، جاءت سيدة بكيس أسود يحوي طعاماً لنا، ونحن في الطريق أعطوني شيئاً من هذا الطعام ويسمى شمبرو، قال لي عتبة بأن بطني سيعاني إن أكلت من هذا الشمبرو! لكنني كنت أشعر في ذلك الوقت بروح المغامرة فأكلته ووجدته لذيذاً، للأسف لم آكل سوى قطعة واحدة فقط، شمبرو هو عبارة عن فول سوداني وشيء من المكسرات المقلية مع الفلفل.
أكتفي بهذا القدر هنا وأكمل معكم في موضوع لاحق.